لم يخف خالد عبيد المؤرخ المختص في التاريخ السياسي المعـــاصر بالمعهد العالي لتاريخ الحركــــة الوطنيـــة تشاؤمه من الوضع الحالي الذي تعيشه تونس حين بادرناه بالسؤال حول التقييم المبدئي تاريخيا لهذه المرحلة.
وقال عبيد إنّ مؤشرات عديدة تلمّح الى سير البلاد نحو طريق مسدود قد يؤدي الى استنساخ الحالة الجزائرية في تسعينات القرن الماضي «لا قدّر الله» على حد قوله.
كما قال في تصريح خاص بـ»الشروق» لا أخفي سرّا أنني متشبث بما كتبته سابقا وهو أننا نعيش وَهْمَ ثورة» فإن كان المطلوب ممّا حدث في البلاد على حدّ قوله تغييرا في النظام فهذا قد حدث أمّا إن كان المطلوب هو القطيعة مع تركة الماضي وفتح أفق جديد يقطع مع ممارسات الاستبداد والإقصاء فإنّ هذا يلزمنا بالتريّث في إطلاق تسمية «الثورة « وذلك على ضوء التطورات المتلاحقة في البلاد. وقد بدأت هذه الكلمة تُستهلك وتفقد الكثير من بريقها الأصيل وكلّ ما يخشاه المؤرّخ أن تصبح ممجوجة يوما ما على حدّ وصفه.
دكتاتورية جديدة
أشار المؤرخ خالد عبيد الى أن هناك مكاسب تحققت منها تنظيم الانتخابات وإرساء مجلس تأسيسي وتوفر مناخ من الحرية في ابداء الرأي والتعبير رغم محاولات التدجين وكذلك إمّحاء الخوف بالرغم من الرغبة في إعادته من خلال تضخيم فزّاعة السلفيين.
ويحذّر المؤرخ قائلا «لو انتشر الخوف لدى التونسيين فإنّ ذلك سيكون اعلان ميلاد دكتاتورية جديدة وهذا المعطى يمكن الاستدلال به تاريخيا فالدكتاتورية تستمد مشروعيتها بل وشرعية وجودها من تعميم الخوف والرعب واكتساحهما للقلوب وهذا ما حدث في تونس في بداية التسعينات من القرن الماضي وأيضا في ألمانيا في الثلاثينات من خلال هيمنة هتلر على الحكم وبروز النازية وما جرّته من ويلات على العالم».
ويخشى المؤرخ أن يكون ما يحدث في تونس اليوم بمثابة بداية ارهاصات النزوع نحو الدكترة والاستبداد مبرزا أن سياسة «من ليس معي هو ضدّي» قد اثبتت فشلها تاريخيا وجرّت الدمار والخراب على الشعوب التي اكتوت بنارها أو الحكّام الذين هزّهم الغرور فطبّقوها ويمكن الاستدلال بظاهرة جورج بوش الابن.
ويقول إنّ ما يؤسفه في تونس هو «وجود رغبة ونزوع في إعتماد هذه السياسة الكارثية، سياسة من ليس معي فهو ضدّي، والتي ردّدتها كثيرا بعض صفحات الموقع الاجتماعي فايسبوك وتفاعلت معها أو من خلال إحياء الظاهرة الميليشياوية التي ظننا أنها ولّت الى غير رجعة».
ويضيف «أقول هذا لأنني أعتقد بأن العقليات لم تتهيّأ بعد كي تقبل فكرة أن اختلافنا لا يؤدي الى خلافنا وأن نحترم بعضنا البعض فتثوير العقليات لم يسبق بعدُ ما سُمّي بثورة في تونس كما سبق ثورات أخرى في التاريخ لهذا بدت الممارسات والتصرفات الفردية منها والجماعية والحزبية منها وغير الحزبية وخاصة في المواقع الاجتماعية بمثابة استمرار لما رأيناه وألفناه خلال فترة النظام السابق».
شرعية مهترئة
أبرز المؤرخ خالد عبيد أن مجرّد الاختلاف في الرأي بين طرف وآخر فإنّ ذلك يصبح عنوانا للسبّ والشتم والتخوين الوطني وأضيف إليها حاليّا التكفير واللجوء الى النظريات المضحكة المبكية مثل نظرية التآمر وغيرها أو المحاولات المستميتة من أجل تدجين الاعلام والصحافيين بتعلّة أنهم يمثّلون «إعلام عار».
ويصف عبيد هذا السلوك بالعبثي الذي يُستنزف فيه أصحابه دون فائدة لأنّ نتيجة هذه المعارك «الدونكيشوتية»، على حدّ وصفه، هو محسوم سلفا لمن يعتبر من مواعظ التاريخ.
ويرثي خالد عبيد «لحال من غُرّر بهم في هذه المعارك الوهمية» مشيرا الى أنّ استمرارية الحال على ماهو عليه يعني إهتراء أيّ شرعيّة كانت «حتّى وإن كانت مستمدّة من الشعب حتّى وإن أفرزتها صناديق الاقتراع».
وأكّد المؤرّخ خالد عبيد أيضا:» أنّ غاية حملات الاستهداف لكلّ من يعبّر عن رأي مخالف هي إسكاته ودفعه للصمت الاختياقسري حتى لا يسود إلاّ الرأي الواحد الأوحد، وهذا الأسلوب تبرع فيه آلة الدعاية الدكتاتورية، إذ لا يُتورّع عن استعمال كلّ الطرق اللاأخلاقية من أجل إسكات من يعبّر عن رأيه من هتك للعرض ومسّ بالشرف، وقد عانى بعض الأحرار من ذلك في عهد النظام السابق، لكن أن تعود هذه الممارسات المستهجَنة فهذا أمر جلَلٌ، والظاهر أنّ هذه عادة تونسية من اختصاصنا مادام الشاعر أبو القاسم الشابّي قد استهجنها في بيت معبّر للغاية « كلّما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد صلاحه...ألبسوا قميصه روح اضطهاد فاتك شائك».
ويتخوّف المؤرخ المختص في التاريخ السياسي المعاصر من إمكانية عدم مطابقة الخطاب للممارسة بالنسبة لمن يتزعمون المشهد السياسي حاليا مثلما حدث في عدة ثورات في التاريخ «فيقع الالتفاف على الثورة ويقع التأسيس لدكتاتورية جديدة تحارب معارضيها باسم الثورة وتلقبهم بأعداء الثورة والفلول الرجعيّة أو فلول النظام السابق».
كما يرى خالد عبيد أن شيوخ السياسة في تونس بصفة عامة والذين كانوا وراء ما حدث إثر سنة 1987 هم أنفسهم نراهم الآن مازالوا فاعلين ومؤثرين ولم يستوعبوا بعد أنّه قد آن الأوان كي ينسحبوا في صمت وهدوء ويتركوا المجال لجيل الشباب.
دور العقلاء
يقول إنّه من غير المقبول أن نعيب على أيّ دكتاتورية كانت استمراريتها في الزمن بينما نجد بعض هؤلاء موجودين على الساحة منذ عقود في خضمّ كل ما يحدث الآن في تونس وفي ظلّ الاستقطاب الحاد الموجود وتقسيم التونسيين الى مسلمين وكفّار «وهي سابقة تحدث لأوّل مرة في تاريخ البلاد سيكون لها انعكاسات كارثية إن لم يتم تدارك الامر».
ويحمّل المؤرخ عبيد مسؤولية انقاذ البلاد من هذا الانزلاق الى العقلاء من التونسيين بالرغم من «أنني بتّ أعتقد أن هذه الظاهرة، ظاهرة العقلاء، في اضمحلال وحتّى من بقي منهم لا يجرؤ على الكلام لأنه يدرك مسبقا ما ينتظره من حملات سبّ وشتم وهتك للعرض وتخوين وتكفير».
كما يقول عبيد إنّه يخاف على البلاد «في ظلّ استغلال فزّاعة السلفية من هذا أو ذاك خاصة وأنّ السلفيين سَهْل جرّهم الى المربّع الذي يُراد لهم دخوله من أجل استنساخ سيناريو الحالة الجزائرية الاليمة في تسعينات القرن الماضي والتي أودت بحياة عشرات الالوف من الجزائريين».
حول هذا السيناريو يقول المؤرخ عبيد «ثمّة دلائل كثيرة تؤكّد أننا ذاهبون الى هذا المنحى وهنا لا بدّ أن نوضّح الفرق الكبير بين الجيش الجزائري الذي ألغى الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وبين الجيش التونسي الذي تعهّد بحماية مكاسب الثورة والانتخابات، خوفي من السيناريو الجزائري لا قدّر الله يتمثل في الفترة التي تلت الإلغاء، إذ شهدت خاصّة بروز مجموعات «متطرّفة» دينيا، لم تتورّع عن تذبيح الجزائريين ذبحا وغيرهم من الأجانب وترويعهم وأيضا بروز ما يعرف بظاهرة الاختفاء القسري والعنف المضادّ الذي قامت به المؤسّسة العسكرية لاستئصالها، على كلّ، أنا آمل أن يغلّب العقلاء، أو من بقي منهم، حكمتهم هنا في تونس، فيتمكّنون من تلافي الطريق المسدود الذي نحن سنسير إليه إن واصلنا بهذه الشاكلة».
ويضيف «هذه صرخة أوجهها الى من يهمه الامر حتّى نتمكّن من المحافظة على هذه البلاد وإن كنت على ثقة بأنّ لدى عموم التونسيين القدرة على تلافي المحظور وحتّى وإن وقع فلن يصمد طويلا أمام رغبة التونسيين في إنهائه لهذا أبدو متفائلا على المدى المتوسط والطويل بالرغم من الصبغة التشاؤمية التي لاحت في تصريحي».
وذكر أنّ لدى التونسيين القدرة على منع هذا المحظور وتفاديه وتفويت الفرصة على من يرغب في الاجهاز على النموذج التونسي التوفيقي بين الأصالة والمعاصرة. كما قال إنّ «لا أحد يملك الحقيقة ولا أحد يملك هذا الوطن فهو ملك لنا جميعا وبالتالي لا يحق لأيّ كان أن يكون وصيّا علينا تحت أيّ مسمّى كان حتّى وإن انخدع بعض شعبنا فإلى حين وحتّى إن غُرّر ببعض شبابنا فإلى حين لأنّ تونس لا يمكن أن تكون إلاّ كما هي وكما كانت لا كما يُراد لها في الخفاء والعلن، وهذا ما حتّمه موقعها الجغرافي عليها والتراكمات التاريخية التي انصهرت كلّها، فصنعت بلادا هي تونس على هذا الشكل من الوسطية والاعتدال والتفتّح على الآخر، وستبقى كذلك، وواهمٌ كلّ من يظنّ أنّه قادر على جرّ التونسيين إلى أنموذجه ولو بالقوّة ولو حتّى بالتدريج أيضا، لأنّ التونسي لا يجرّ مثل الشاة، حتى وإن أعطى انطباعا بأنّه يُساق إلى ذلك «النموذج»، فإلى حين، والأيّام بيننا، ولنا في التاريخ مواعظ وعِبَر لمن يعتبر» حسب قوله.